سورة الأنعام - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


البصائر جمع بصيرة، وهي في الأصل: نور القلب، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح. وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في آخره {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ووصف البصائر بالمجيء تفخيماً لشأنها، وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه، كما يقال جاءت العافية، وانصرف المرض، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه؛ لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار {وَمَنْ عَمِىَ} عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها، فضرر ذلك على نفسه؛ لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} برقيب أحصي عليكم أعمالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان. {وكذلك نُصَرّفُ الآيات} أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه. قوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} العطف على محذوف، أي نصرّف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. أو علة لفعل محذوف يقدّر متأخراً، أي وليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة. والمعنى: ومثل ذلك التصريف نصرّف الآيات وليقولوا درست، فإنه لا احتفال بقولهم ولا اعتداد بهم، فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم.
وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج.
وقال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى {نُصَرّفُ الآيات} نأتي بها آية بعد آية {وَلّيَقُولواْ دَرَسْتَ} علينا، فيذكرون الأوّل بالآخر، فهذا حقيقته، والذي قاله أبو إسحاق: يعني الزجاج مجاز. وفي {دَرَسْتَ} قراءات، قرأ أبو عمرو، وابن كثير {دارست} بألف بين الدال والراء كفاعلت، وهي قراءة عليّ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وأهل مكة. وقرأ ابن عامر {درست} بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت، وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون {درست} كضربت، فعلى القراءة الأولى المعنى: دارست أهل الكتاب ودارسوك، أي ذاكرتهم وذاكروك، ويدلّ على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون} [الفرقان: 4] أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن، ومثله قولهم: {أساطير الأولين اكتتبها فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5]، وقولهم: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. والمعنى على القراءة الثانية: قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت، وهو كقولهم: {أساطير الأولين} [الأنعام: 25]، وفي ثمانية مواضع أُخر من كتاب الله العزيز. والمعنى على القراءة الثالثة: مثل المعنى على القراءة الأولى. قال الأخفش: هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ.
وحكى عن المبرد أنه قرأ: {وَلِيَقُولُواْ} بإسكان اللام، فيكون فيه معنى التهديد، أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين، وفي اللفظ أصله درس يدرس دراسة، فهو من الدرس، وهو القراءة.
وقيل من درسته: أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام، أي داسه. والدياس: الدراس بلغة أهل الشام. وقيل أصله من درست الثوب أدرسه درساً، أي أخلقته، ودرست المرأة درساً، أي حاضت. ويقال: إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض، والدرس أيضاً: الطريق الخفي.
وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس: أي لم يركب.
وروى عن ابن عباس وأصحابه، وأبي، وابن مسعود، والأعمش، أنهم قرءوا {درس} أي: درس محمد الآيات، وقرئ: {درِسَتْ} وبه قرأ زيد بن ثابت، أي الآيات على البناء للمفعول، {ودارست} أي دارست اليهود محمداً. واللام في {لنبينه} لام كي، أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون، والضمير راجع إلى الآيات؛ لأنها في معنى القرآن، أو إلى القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل.
قوله: {اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أمره الله باتباع ما أوحى إليه وأن لا يشغل خاطره بهم، بل يشتغل باتباع ما أمره الله، وجملة: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، لقصد تأكيد إيجاب الاتباع {وَأَعْرِض} معطوف على {اتَّبِعُ} أمره الله بالإعراض عن المشركين بعدما أمره باتباع ما أوحي إليه، وهذا قبل نزول آية السيف: {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} أي لو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا، وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده، {وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي رقيباً {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم، ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة.
قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار. والمعنى: لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله، فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدواناً وتجاوزاً عن الحق، وجهلاً منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجباً عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله، المتصدين لبيانها للناس، إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه، وتركوا غيره من المعروف. وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات؛ عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين، وجراءة على الله سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة، قابلوها بما لديهم من البدعة، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع، وهم شرّ من الزنادقة، لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع، ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام، وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم، ويتمّ باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين، مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة، وهي أصل أصيل في سدّ الذرائع، وقطع التطرّق إلى الشبه.
وقرأ أهل مكة {عُدُوّا} بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن، وأبي رجاء وقتادة. وقرأ من عداهم بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو، ومعنى القراءتين واحد: أي ظلماً وعدواناً، وهو منتصب على الحال، أو على المصدر، أو على أنه مفعول له {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشرّ {يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء} [النحل: 93، فاطر: 8] {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ} أي بينة {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} أي فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه {وَمَنْ عَمِىَ} أي من ضلّ {فَعَلَيْهَا}.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {دارست} وقال: قرأت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عنه {دَرَسْتَ} قال: قرأت وتعلمت.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عنه أيضاً قال: {دارست} خاصمت، جادلت، تلوت.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} قال: كفّ عنهم، وهذا منسوخ، نسخه القتال: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} يقول الله تبارك وتعالى: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي بحفيظ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} قال: قالوا يا محمد لتنتهينّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم {فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من سبّ والديه»، قالوا يا رسول الله وكيف يسبّ الرجل والديه؟ قال: «يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمه».


قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله} أي الكفار مطلقاً، أو كفار قريش، وجهد الأيمان أشدّها، أي أقسموا بالله أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم، وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، فلهذا أقسموا به، وانتصاب {جهد} على المصدرية، وهو بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاقة، ومن أهل اللغة من يجعلهما لمعنى واحد، والمعنى: أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية من الآيات التي كانوا يقترحونها، وأقسموا لئن جاءتهم هذه الآية التي اقترحوها {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} وليس غرضهم الإيمان، بل معظم قصدهم التهكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتلاعب بآيات الله، فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله: {إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} هذه الآية التي يقترحونها، وغيرها، وليس عندي من ذلك شيء، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها. قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، بكسر الهمزة من {أنها} وهي قراءة مجاهد، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون أي وما يدريكم، ثم حكم عليهم بقوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقال الفراء وغيره: الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقرأ أهل المدينة والأعمش، وحمزة والكسائي، وعاصم، وابن عامر {أنها إذا جاءت} بفتح الهمزة. قال الخليل: {أنها} بمعنى لعلها، وفي التنزيل: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] أي أنه يزكي.
وحكى عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك، ومنه قول عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي *** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي لعل منيتي، ومنه قول دريد بن الصمة:
أريني جواداً مات هزلاً لأنني *** أرى ما ترين أو بخيلاً مخلداً
أي لعلني، وقول أبي النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه *** أني نُغَدِّ اليوم من شوائه
أي لعلي، وقول جرير:
هل أنتم عائجون بنا لأن *** نرى العرصات أو أثر الخيام
أي لعلنا: ا ه.
وقد وردت في كلام العرب كثيراً بمعنى لعل.
وحكى الكسائي أنها كذلك في مصحف أُبيّ بن كعب.
وقال الكسائي أيضاً والفراء: إن {لا} زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها أي الآيات، إذا جاءت يؤمنون، فزيدت كما زيدت في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] وفي قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدَ}
[الأعراف: 12] وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة {لا} وقالوا: هو غلط وخطأ. وذكر النحاس وغيره، أن في الكلام حذفاً والتقدير: أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع.
قوله: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} معطوف على {لا يؤمنون} قيل والمعنى: تقليب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار، وحرّ الجمر {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ} في الدنيا {وَنَذَرُهُمْ} في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم فعلى هذا بعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. وقيل المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا، أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أوّل مرة عند ظهور المعجزة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم، ونذرهم في طغيانهم يعمهون، أي يتحيرون، والكاف في {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ} نعت مصدر محذوف، و{ما} مصدرية، و{يَعْمَهُونَ} في محل نصب على الحال.
قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة} أي لا يؤمنون ولو نزلنا إليهم الملائكة كما اقترحوه بقولهم: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] {وَكَلَّمَهُمُ الموتى} الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم، فقالوا لهم: إن هذا النبي صادق مرسل من عند الله، فآمنوا به، لم يؤمنوا {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَئ} مما سألوه من الآيات {قُبُلاً} أي كفلاً وضمناً بما جئناهم به من الآيات البينات. هذا على قراءة من قرأ: {قبلاً} بضم القاف وهم الجمهور. وقرأ نافع، وابن عامر، {قبلاً} بكسرها أي مقابلة.
وقال محمد بن يزيد المبرد: {قبلاً} بمعنى ناحية، كما تقول لي قبل فلان مال، فقبلاً نصب على الظرف، وعلى المعنى الأوّل ورد قوله تعالى: {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً} [الإسراء: 92] أي يضمنون، كذا قال الفراء.
وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل: أي جماعة جماعة.
وحكى أبو زيد، لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً كله واحد، بمعنى المواجهة، فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان. والحشر: الجمع {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} إيمانهم، فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والاستثناء مفرغ {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} جهلاً يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب.
قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ} هذا الكلام لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم، أي مثل هذا الجعل {جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً} والمعنى: كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار، فجعلنا لكل واحد منهم عدواً من كفار زمنهم، و{شياطين الإنس والجن} بدل من {عدواً}. وقيل هو المفعول الثاني لجعلنا. وقرأ الأعمش {الجن والإنس} بتقديم الجن، والمراد بالشياطين المردة من الفريقين، والإضافة بيانية، أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل الإنس والجن: الشياطين، وجملة {يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} في محل نصب على الحال، أي حال كونه يوسوس بعضهم لبعض.
وقيل إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدوّ، وسمي وحياً لأنه إنما يكون خفية بينهم، وجعل تمويههم زخرف القول لتزيينهم إياه، والمزخرف: المزين، وزخارف الماء طرائفه، و{غُرُوراً} منتصب على المصدر، لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض يغرونهم بذلك غروراً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً له، والغرور: الباطل.
قوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقاً من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله، أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدّم ذكره ما فعلوه وأوقعوه وقيل: ما فعلوا الايحاء المدلول عليه بالفعل {فَذَرْهُمْ} أي اتركهم، وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] {وَمَا يَفْتَرُونَ} إن كانت {ما} مصدرية فالتقدير: اتركهم وافتراءهم، وإن كانت موصولة فالتقدير: اتركهم والذي يفترونه.
قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} اللام في لتصغي لام كي، فتكون علة كقوله: {يُوحِى} والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض لغرورهم ولتصغى. وقيل: هو متعلق بمحذوف يقدر متأخراً، أي لتصغى {جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً} وقيل: إن اللام للأمر وهو غلط، فإنها لو كانت لام الأمر جزمت الفعل، والإصغاء: الميل، يقال صغوت أصغو صغواً، وصغيت أصغى؛ ويقال صغيت بالكسر؛ ويقال أصغيت الإناء: إذا أملته ليجتمع ما فيه، وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض، ويقال صغت النجوم: إذا مالت للغروب، وأصغت الناقة: إذا أمالت رأسها، ومنه قول ذي الرمة:
تصغي إذا شدّها بالكور جانحة *** حتى إذا ما استوى في غرزها وثبت
والضمير في {إليه} لزخرف القول، أو لما ذكر سابقاً من زخرف القول وغيره، أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} من الكفار، {وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسهم بعد الإصغاء إليه {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} من الآثام، والاقتراف: الاكتساب؛ يقال خرج ليقترف لأهله، أي ليكتسب لهم، وقارف فلان هذا الأمر: إذا واقعه، وقرفه: إذا رماه بالريبة، واقترف: كذب، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: نزلت: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} في قريش {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} يا أيها المسلمون {أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
وأخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي، قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قريشاً فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها البحر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدّقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي شيء تحبون أن آتيكم به؟» قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً، قال: «فإن فعلت تصدقوني؟» قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل فقال له: إن شئت أصبح ذهباً، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال: «بل يتوب تائبهم»، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} إلى قوله: {يَجْهَلُونَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء وردّت عن كل أمر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عنه {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَئ قُبُلاً} قال: معاينة {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: أهل الشقاء {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَئ قُبُلاً} أي فعاينوا ذلك معاينة.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد قال: أفواجاً قبيلاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن} قال: إن للجنّ شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجنّ، فيقول هذا لهذا: أضلله بكذا، وأضلله بكذا، فهو: {يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} وقال ابن عباس: الجنّ هم الجانّ وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس والجنّ يموتون، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن مسعود قال: الكهنة هم شياطين الإنس.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، فإن الله يقول: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121].
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال: من الإنس شياطين، ومن الجن شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، زخرف القول قال: يحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم.
وقد أخرج أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر تعوّذ بالله من شرّ شياطين الجن والإنس»، قال: يا نبيّ الله وهل للإنس شياطين؟ قال: «نعم، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً».
وأخرج أحمد، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن أبي ذرّ مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {ولتصغى} لتميل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه {ولتصغي} تزيغ {وَلِيَقْتَرِفُواْ} يكتسبوا.


قوله: {أَفَغَيْرَ الله} الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على فعل مقدّر، والكلام هو على إرادة القول، والتقدير: قل لهم يا محمد كيف أضلّ أوابتغى غير الله حكماً؟ و{غير} مفعول لأبتغي مقدّم عليه، وحكماً المفعول الثاني أو العكس. ويجوز أن ينتصب {حكماً} على الحال، والحكم أبلغ من الحاكم كما تقرر في مثل هذه الصفة المشتقة، أمره الله سبحانه وتعالى أن ينكر عليهم ما طلبوه منه، من أن يجعل بينه وبينهم حكماً فيما اختلفوا فيه، وإن الله هو الحكم العدل بينه وبينهم، وجملة: {وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً} في محل نصب على الحال، أي كيف أطلب حكماً غير الله، وهو الذي أنزل عليكم القرآن مفصلاً مبيناً واضحاً، مستوفياً لكل قضية على التفصيل؟ ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أهل الكتاب، وإن أظهروا الجحود والمكابرة، فإنهم يعلمون أن القرآن منزل من عند الله بما دلّتهم عليه كتب الله المنزلة، كالتوراة والإنجيل، من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء، و{بالحق} متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي متلبساً بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، ثم نهاه الله عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق، أو نهاه عن مطلق الامتراء، ويكون ذلك تعريضاً لأمته عن أن يمتري أحد منهم، أو الخطاب لكل من يصلح له، أي فلا يكوننّ أحد من الناس من الممترين، ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خطابه خطاب لأمته.
قوله: {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} قرأ أهل الكوفة {كلمة} بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، والمراد بالكلمات العبارات أو متعلقاتها من الوعد والوعيد. والمعنى: أن الله قد أتمّ وعده ووعيده، فظهر الحق وانطمس الباطل. وقيل: المراد بالكلمة أو الكلمات القرآن، و{صِدْقاً وَعَدْلاً} منتصبان على التمييز، أو الحال، على أنهما نعت مصدر محذوف، أي تمام صدق وعدل {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به، والجملة المنفية في محل نصب على الحال، أو مستأنفة {وَهُوَ السميع} لكل مسموع {العليم} بكل معلوم.
قوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من في الأرض أضلوه، لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين، وهم الطائفة التي لا تزال على الحق، ولا يضرّها خلاف من يخالفها، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بالأكثر: الكفار. وقيل المراد بالأرض: مكة أي أكثر أهل مكة، ثم علل ذلك سبحانه بقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي ما يتبعون إلا الظنّ الذي لا أصل له، وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي وما هم إلا يخرصون، أي يحدسون ويقدّرون، وأصل الخرص القطع، ومنه خرص النخل يخرص: إذا حزره ليأخذ منه الزكاة، فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به، إذ لا يقين منه.
وإذا كان هذا حال أكثر من في الأرض، فالعلم الحقيقي هو عند الله، فاتبع ما أمرك به، ودع عنك طاعة غيره، وهو العالم بمن يضلّ عن سبيله ومن يهتدي إليه. قال بعض أهل العلم: إن {أَعْلَمُ} في الموضعين بمعنى يعلم، قال: ومنه قول حاتم الطائي:
فحالفت طيّ من دوننا حلفا *** والله أعلم ما كنا لهم خولا
والوجه في هذا التأويل أن أفعل التفضيل لا ينصب الاسم الظاهر، فتكون {من} منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائباً عنه. وقيل: إن أفعل التفضيل على بابه والنصب بفعل مقدّر. وقيل: إنها منصوبة بأفعل التفضيل، أي إن ربك أعلم أيّ الناس يضلّ عن سبيله، وقيل: في محل نصب بنزع الخافض، أي بمن يضلّ، قاله بعض البصريين. وقيل: في محل جرّ بإضافة أفعل التفضيل إليها.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {مُفَصَّلاً} قال: مبيناً.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {صِدْقاً وَعَدْلاً} قال: صدقاً فيما وعد، وعدلاً فيما حكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وأبو نصر السجزي في الإبانة، عن محمد بن كعب القرظي، في قوله: {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} قال: لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والآخرة لقوله: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} [ق: 29].
وأخرج ابن مردويه، وابن النجار، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} قال: «لا إله إلا الله».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي اليمان عامر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة، ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه، فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره، فكلما طعن صنماً أتبعه ضرباً بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد، والنبيّ يقول: {وَتَمَّتْ * كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لكلماته وَهُوَ السميع العليم}.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10